بسم الله الرحمن الرحيم
تقديـم
إلى من يطَّلع أو يقرأ هذه الرسالة المرفقة، والتي هي بعنوان «تحفة المعلم»، وقد أرسل بها إليَّ أخي في الله تعالى الشيخ/ عبد الرحمن اليحيى وفقه الله تعالى وإذا بها جديرة بالاهتمام والنشر والقراءة والتطبيق العملي الصادق الخالص المثمر، فإلى الجميع أحمد الله تعالى وأُصلي وأُسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
وأشكر الله تعالى أن زادنا علمًا بهذه الرسالة، فإن فيها نقاطًا مهمة لكل مدرس ومدرسة، ولكل مؤمن ومؤمنة عامة، ولا شك أن على المدرسين والمدرسات – حفظهم الله تعالى – مسؤولية عظيمة، وأنهم قد تحملوا أمانة كبيرة، ولعل الله تعالى أن يزيدهم بهذه الرسالة علمًا وبصيرة وعملاً جادًا على أداء المسؤولية فـ «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته».
* فهل تساءلت أخي المدرس مع نفسك وحاسبتها: كم سيتخرج هذا العام – الذي أخذ في التصرم والرحيل – على يديك من طلبة علم يُرى أثر تعليمك في سلوكهم، وأخلاقهم، وكلامهم، وأبصارهم، وأسماعهم؟ بل وفي صلاتهم، وخشوعهم، وإعراضهم عن اللغو والمنكرات، وسعيهم إلى المساجد، وحِلق الذكر، والطاعات؟ فإن الطالب نسخة من مدرسه وهو على شاكلته، وصدق رسول الله : «من سنَّ في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص من أوزارهم شيئًا».
* لقد كان الدارسون من سلفنا يبرك الواحد منهم شهرًا أو شهرين أو عامًا واحدًا أو عامين عند مدرسه وشيخه فإذا به قدوة حسنة بمجرد أن تنظر إليه، فكيف إذا وَعَظ أو تكلم؟.. وتتبع تدريس السلف هل تجد واحدًا فقط فاشلاً في علمه، وعمله تخرج؟ فالله الله في الإخلاص والصدق وتربية النشء على ذلك وربط قلوبهم بالله تعالى الذي علمك وعلمهم.
* واشكره سبحانه على نعمة السمع الذي تسمع به العلم، والعقل والقلب الذي تعقل به وتفقه به العلم، واللسان الذي أنطقه الله تعالى من قطعة لحم بالحكمة والعلم، قل للواحد منهم: عينك مَن يحركها هذه الحركة الدائبة؟ قلبك الذي يدق في الدقيقة الواحدة نحوًا من سبعين دقة ففي الساعة كم؟ وفي اليوم الواحد كم؟ بل كم لله تعالى من نعم عليك؟ إذًا فلا تنسَ رقابة الله تعالى الذي حرك قلبك وقلَّب طَرْفك إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [فاطر: 38] وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآَزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ * يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر: 18، 19].
اسأل الله تعالى بأسمائه وصفاته لنا أجمعين التوفيق وأداء الأمانة وأن يجنِّبنا سبحانه طريق المغضوب عليهم الذين تعلموا ولكن لم يعملوا، والضالين الذي جهلوا ولم يتعلموا – آمين.
* وعليك أخي في الله أن تُذَكِّر نفسك وإخوانك وطلبتك ومن يقتدي ويتأثر بسلوكك أن القدوة المطلقة هي بمن أرسله الله للناس معلمًا – صلوات الله وسلامه عليه. فإذا صدر منك خطأ أو سلوك مشين فقل: لا تقتدوا بي في ذلك. واستغفر الله من ذلك لئلا تقع في حال من يُقتدى بهم في السوء، وأخبرهم أن الإسلام بريء مما أُلصق به من القدوات السيئة والأعمال المشينة، وصدق الله ومن أصدق من الله قيلاً: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب: 21].
* وتَذَكَّر وذَكِّر، بل انشر هذه الذكرى، فالدين النصيحة، الدين النصيحة، ومن لم يُمسِ ويصبح كذلك وإلا فقد أمسى وأصبح غاشًا، كيف وقد بايع جرير بن عبد الله رسول الله على ذلك، بل بايعه على أصرح من ذلك بأوضح عبارة بأن ينصح لكل مسلم، والنصيحة لكل مسلم تستوجب النصح لله تعالى، ولكتابه، ولرسوله، ولعباده خصوصًا وعمومًا، سرًا وجهارًا، ليلاً ونهارًا.
* تذكر حال الداعية والمعلم الأول في سورة نوح وقد دعا وعلم 950 عامًا قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا * فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا [نوح: 5-10] ولم يزل على ذلك حتى وقت نزول العذاب بهم، بل قال في آخر لحظة:
يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ [هود: 42]، ولقد ذُكر عنه أنه كان يُحمَل من قِبلهم ومن عصابتهم فيلقى في قعر بيت خرب يظنون أنه قد مات، فيخرج عليهم في اليوم الثاني مباشرة يعلمهم ويدعوهم إلى الله تعالى.
* وإبراهيم يُرمى في النار فيقول الله تعالى لها: كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا [الأنبياء: 69].
* ورحم الله محمد بن الحسن الشيباني حيث ذُكر عنه أنه كان دؤوبًا في العلم، فإذا فتر من فن انتقل إلى فن آخر من العلم النافع، وكان يزيلُ النوم بالماء كلما فتر، ويقول: «إن النوم من الحرارة»، فكان يطرده عنه بالماء.
* وفي الختام جزى الله من أوصل هذه الرسالة إليَّ ومن أرسلها، وألَّفها، ونشرها، ووزعها خيرًا – آمين. والحمد لله رب العالمين، اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والسلام عليكم وعلى كل من بَلَغَته من المسلمين ورحمة الله وبركاته.
من أخيكم في الله جل جلاله
أحمد بن محمد بن عبد الله الحواشي
* * * *
تحفة المعلم
الحمد لله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير، والصلاة والسلام على النذير البشير، أما بعد:
* فإن الباعث على كتابة هذه الرسالة هو النصيحة لله، التي هي من ألزم اللوازم، ومن باب قوله عليه الصلاة والسلام: «فرُبَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه» [رواه أبو داود من حديث زيد ]، وقد كتبت لك هذه الرسالة يا أخي وأرجو من الله أن تلقى عندك قبولاً واستحسانًا، وأن ينفعك الله بها حتى يثمر تعليمك وعملك، ويحصل بك الانتفاع.
* ولمَّا كانت الأيام مراقيَ إلى الآداب، ودرجات إلى العلم الأكبر – كتبت لك هذه الرسالة، وقد انتخبت هذه الفضائل والنصائح من أفواه الرجال، وبطون صحائف العلماء، وما يسنح به الخاطر من الله تعالى، فخذها بقوة، وخذ نفسك بالعزائم ولا تترخص، فإن عجزت فسَل الموفِّق فإنه يؤيد بالعزائم.
* فإليك هذه الآداب الشرعية والمنح المرعية:
1- من الآداب المرعية التي ينبغي للمعلم مراعاتها: القدوة الحسنة وضرورة توافرها في المعلم، فإن صلاحه صلاحٌ لطلاب، كما أن عيوبهم معقودة بعيوبه، فالحسن عندهم ما فعل، والقبح عندهم ما ترك، وقد ضرب المعلم الأول عليه الصلاة والسلام بحسن القدوة الحسنة المثلَ الأعلى، فله فيها القدح المعلى حتى كان العربي القح يراه فيقول: «والله ما هذا بوجه كاذب»، فيشهد له بالصدق بمجرد رؤيته، فكيف بمن شاهد أخلاقه وحسن تعليمه، وقد أتاه الله ذلك كله وأثنى عليه في كتابه فقال سبحانه وتعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم: 4]، وهو مع ذلك رجل أمي لم يمارس التعليم، ولم يطالع الكتب، فسبحان من ألهمه وعلَّمه ما لم يكن يعلم.
* ولمَّا كانت القدوة الحسنة أهم خصلة وسِمة يتحلى بها المعلم؛ لأنها ثمرة العلم والعمل، كان السلف يقصدون من العلماء من يتحلى بهذه الصفة، يقول أحد السلف: «كان يجتمع في مجلس الإمام أحمد زُهَاء خمسة الآلاف، وكان أقل من خمسمائة يكتبون، والباقون يتعلمون منه حسن الأدب وحسن السمت».
* ويقول أبو بكر المطوعي: «كنت أختلف إلى الإمام أحمد فما كنت أكتب حديثًا واحدًا، إنما أنظر إلى هديه وأخلاقه وأدبه».
* ومن هنا كانت القدوة الحسنة أعظم خصلة ومنحة، فإن لم ينفع لفظ نفع سَمْت وهدي، فيدعو الناس إلى عمله بالصمت والوقار؛ ولهذا تعمل هذه الخصلة في القلوب ما لا تعمله آلاف الخطب والمواعظ. وهذا الكلام موجه لمن أراد أن يخدم هذه الأمة المباركة، أمَّا من لم يرفع بذلك رأسًا، ولم يفكر في خدمة هذا الدين فلا على مثله يُلوى ولا يحزن، ولن يلتفت إلى هذا الكلام أصلاً، ولكن كما قال الشاعر:
علومًا لو دراها ما قلاها
ولكن الرضا بالجهل سهلُ