إن مفهوم الشخصية، مفهوم متداول في الاصطلاح اليومي، حيث يقال عادة إن لفلان شخصية ، ويقصد بذلك ما يتميز به الفرد عن غيره من خصوصيات جسمانية أو مكانة اجتماعية مميزة ، مرتبطة بثروته أو نفوذه السياسي أو الاجتماعي ... وعلى عكس ذلك ، نسمع بضعف الشخصية أو انعدامها ، ويراد بذلك الإشارة إلى صفات الانهزامية ، والاستسلام ، والخنوع ، التي يمكن أن تغلب على الفرد . وهذا ما يؤكد أن مفهوم الشخصية ، مرتبط في التمثل الشائع ، بالمظاهر الخارجية القابلة للإدراك المباشر ؛ مما يبين أن هناك خلط بين مفهوم الشخص ومفهوم الشخصية . وهذا ما يدفعنا إلى التساؤل حول حقيقة هذا التلازم ، ومدى ارتباط مفهوم الشخصية بالمظاهر الخارجية المميزة
نجد مفهوم الشخصية في اللسان العربي لا يبتعد كثيرا عن الاصطلاح العادي . أما في الحقل المعجمي الفرنسي ، فإنه يلاحظ أن المعنى الإيتيمولوجي للكلمة يرتبط بكلمة persona اللاتينية ، التي تعني القناع الذي يضعه الممثل على وجهه حتى يتقمص الدور المسند له . ويتوسع هذا المفهوم ليجعلنا نتساءل عن طبيعة العلاقة الممكنة بين الشخصية والدور باعتبار الفرد يؤدي في حياته اليومية أدوارا اجتماعية مميزة. وهذا ما يستدعي وقوفا أوليا عند مفهوم الشخصية في التمثلين الفلسفي والعلمي.
إن معنى الشخصية يرتبط في الاصطلاح الفلسفي بوضعية الإنسان في فلسفة معينة . فنجد كانط مثلا يميز بين مفهوم الشخص ومفهوم الشخصية . فالشخص - عنده - هو الفرد المباشر الذي تنسب له مسؤولية أفعاله والشخصية هي الكينونة العاقلة التي يجب أن تدرك نفسها في حريتها وحدود الواجب الأخلاقي . وترتبط الشخصية في الطرح الهيجلي بالوعي بالذات في إطار الصيرورة العامة والمطلقة لحركة الوجود.
أما في العلوم الإنسانية ، فإن مفهوم الشخصية يتحدد في ثلاث منظومات أساسية:
منظومة الشخص:ويقصد بها السمات المميزة للإنسان كعضوية بيولوجية وككينونة مسؤولة أخلاقيا، وقانونيا، واجتماعيا.
المنظومة السيكولوجية : ويقصد بها النظر إلى الإنسان كحياة نفسية تنمو وتتغير بناء على معطيات ذاتية وموضوعية، وما يترتب عن مراكمة تجارب وخبرات تنعكس على سلوكيات الإنسان وحياته الفردية.
المنظومة السوسيوثقافية : ويقصد بها النظر إلى الفرد في تفاعله مع محيطه الاجتماعي (المؤسسات ، والآليات ، والأنظمة الاجتماعية…).
إن هذا التنوع والاختلاف في تحديد المعنى الدلالي لمفهوم الشخصية يؤكد الطبيعة الإشكالية لحقيقة الشخصية ... وهذا بالضبط ما ترجمته من خلال تساؤلات نعتبر الإجابة عنها هي الهاجس الذي سيقود هذا الدرس :
• هل الشخصية نظام خارجي أم إنها مفهوم مجرد؟
• هل الشخصية بناء سيكولوجي محض ؟ أم أنها حتمية سوسيوثقافية؟
• هل الشخصية نتاج حتمي ؟ أم أنها بناء واع ومسؤول ينشئه الفرد بمحض إرادته؟
2 ـ الشخصية وأنظمة بنائها
إن تحديد الشخصية كبناء أو كنظام يحتم معالجة المسألة من خلال الطروحات التي حاولت تمثل الشخصية في منظومة فكرية معينة ، وعليه نجد أنفسنا أمام خطابات تحاول كل منها حصر الشخصية في تمثلاتها الخاصة . وحتى تكون مقاربتنا إجرائية نقوم بحصر هذه الخطابات في الخطاب الفلسفي ، والخطاب العلمي : السيكولوجي منه والسوسيوثقافي .
ففي الخطاب الفلسفي نجد أن معظم الفلاسفة الذين تناولوا الشخصية ، تناولوها كنظام مجرد مرتبط بالوعي . فهذاديكارت ، يستبعد أن تكون الخصائص الجسمية هي التي تميز الشخص عن الشخصية ؛ لأن كينونة الشخصية لابد أن ترتبط بصفة لا تقبل الشك ، ولا تحل في مكان . وحينما نفكر مليا ، نجد عند ديكارت صفة التفكير هي الصفة الأساسية والوحيدة التي تميز الشخصية . ومن ثمة يرتبط مفهوم الشخصية عند ديكارت بالأنا المفكرة أو الذات الواعية (أو الجوهر المفكر): فحينما تنقطع الذات عن التفكير تنقطع عن الوجود. لذا يقول ديكارت : "إذا انقطعت عن التفكير، انقطعت عن اوجود" ... وكان هذا ، تقريبا ، هو التصور الذي تبناه ابن سينا حينما ربط بين الأنا والوعي ، واعتقد أن الأنا يمكن أن تنقطع عن كل شيء إلا عن إنيتها . ومن ثمة يستبعد أن تكون الشخصية مرتبطة بالمظاهر الجسمانية والحسية.
أما كانط فيعتبر الشخصية موضوعا لعقل أخلاقي عملي ، باعتبار أن الشخصية عنده ذات أخلاقية ، لأن ما يميز الإنسان عن الكائنات الأخرى ، كونه يمتاز بالعقل . وحينما يستعمل هذه الأداة سيكتشف بأنه يعمل بمقتضى الواجب الأخلاقي الذي يحتم عليه أن يحترم ذاته ويحترم الآخرين ، لأنه يكتشف ذاته باعتباره موجودا يملك كرامة . وعلى هذا الأساس ترتبط الشخصية بوعي الإنسان بقيمته، وبالتالي وعي الذات لنفسها باعتبارها وجودا أخلاقيا ...
لكن سارتر يرى أن الوعي بالذات لا يكون تلقائيا ، بل هو وعي يكون بحضور الآخر . فقد أقوم بشيء ما ، ولكن حين أرفع رأسي، أكتشف نظرة الآخر إلي فأشعر بالخجل ، فأعرف بأني ذات خجولة لأني أنظر إلى نفسي نظرة الآخر إلي، وبتعبير أدق فالآخر يجعلني أموضع ذاتي ... وعليه ، فإن الغير يلعب دورا أساسيا في التعرف عن شخصيتنا، لكن هذا الوعي يظل محدودا فهو شعور نسبي، لأنه يتم في الحدود التي جعلنا الآخر نتمثلها…
نخلص من هذا إلى أن الخطاب الفلسفي ، غالبا ما يعتبر الشخصية نظاما مجردا خاصا بالشخص ، ويرتبط هذا النظام بالوعي ، باعتبار أن الشخصية كينونة واعية بذاتها، إما كذات مفكرة، أو كذات أخلاقية، أو كموضوع ... الخ . فهل هذا هو التمثل العلمي للشخصية ؟
إن مفهوم الشخصية، موضوع حظي كثيرا باهتمامات العلوم الإنسانية ، إلى الحد الذي يمكننا من القول بأن هدف العلوم الإنسانية في نهاية المطاف هو دراسة الشخصية .